شروط صحة العبادة
وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
1- ألا يعبد إلا الله [بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة].
2- وألا يعبد الله إلا بما شرع. .
هذا في حقيقته وذاته، أما أسلوبه العملي ومنهجه الدعوي -وهو الجانب الذي يهمنا الآن- فقد تضمنته آية الحديد السابقة، التي جعلها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية محور كتابه القيم السياسة الشرعية. قال في مقدمته:
''الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز'' .
وقال في خاتمته: '' إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى -أي: في آية الحديد السابقة- فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن، والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده'' .
إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن ''هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتحقق في الأرض -في دنيا الناس- بمجرد تنزيله من عند الله ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.
إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملاً، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة، تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري، في أنفسنا وأنفسها الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج وتبلغ بعد ذلك كله من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر'' .
هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً))[الفرقان:52]، وتجاهدهم بالحديد ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ))[البقرة:251] حتى يستقيموا إلى الله، ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم}
وقوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله}
مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة، أما النصر والتمكين فمن عند الله.
وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها.
فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: {ليتني فيها جذعاً -ليتني أكون حياً- إذ يخرجك قومك!
فيسأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغراب: أو مخرجَّي هم؟!
فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عوديَّ}.
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: { سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة } .
وهذا ما صدّقه الله بقوله تعالى:
((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214]
وفي هذا رد -وأيما رد- على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة.
وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضاً.
فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبداً، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن ''هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع لتطورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وتقاليد وعادات، وهو مجتمع عضوي بين أفراده، ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد '' وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال:
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ))[إبراهيم:13-14].
((قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ))[الأعراف:88-89] .
((وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))[النمل:54-56].
((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ))[غافر:26].
((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً))[الفرقان:31].
((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ))[الأنعام:112].
((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ))[الأنعام:123].
((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))[الأنفال:30].